في بيان مذهبه في معنى الإنسان وحده |
فصل آخر
في بيان مذهبه في معنى الإنسان وحده
اعلم أنه كان يقول:
إن المرجع في ذلك إلى ما عرفه أهل اللغة وأشاروا إليه بقولهم: إنسان، إذا سألناهم وقلنا لهم ما الإنسان؟ فلما وجدناهم في الجواب عن ذلك عند السؤال يشيرون إلى هذا الجسد الظاهر المركب بهذا التركيب المبني بهذا الضرب من البنية المخصوصة، دل على أنهم وضعوا هذه التسمية لهذه الجملة، كما أنه إذا قيل لهم: ما النخلة؟ أشاروا إلى ما كان بهذه الهيئة المخصوصة من الأشجار.
وكان يقول:
إن الذين مسخهم الله تعالى قردة وخنازير، فقد كانوا ناسا قبل أن مسحهم الله له فردة وخنازير، ولم يكونوا ناساً في حال ما مسخهم، كما أن الذين سود الله تعالى وجوههم إذ كانوا بيض الوجوه قبل ذلك، فليسوا ببيض الوجوه في حال ما سودها، ولكن كانوا بيض الوجوه قبل ذلك، فسودها بعد بياضها.
وكذلك كان يقول في جبرائيل لما أتى نبي الله في صورة دحية الكلبي: إني لا أمنع أن الله تعالى لما جعله في صورة دحية جعله إنساناً، وأوجب له تسمية الإنسانية. قال: وإن أجاب مجيب بأن الله تعالى لم يجعله بصورة الإنسان من كل جهة في باطنه وظاهره، ولو فعل به ذلك للزمه أحكام الإنسانية ووجبت له معاني البشرية، ولكن الله تعالى لم يجعل له صورة الإنسان ولا ركبه تركيبه في ظاهره وباطنه.
وكان يقول:
إن قول المعتزلة في أن الإنسان هذه الجملة، وإن هذه الجملة هي الفاعلة الحية القادرة، يضعف في النظر على أصولهم، وإن قول من قال منهم: إن الحي القادر هو الجزء، أجرى في القياس وأثبت في النظر على أصولهم، وإن ما لهم من المسائل والمعارضات عليهم على أصولهم فهي لازمة لهم ولا مخلص لهم منها. وقد ذكر بعض تلك المسائل في كتاب النوادر وفي النقض على الإسكافي وفي كتاب اللطيف (1 ).
فمن ذلك أنه قال:
إنهم إن قالوا لهم: إذا كان الإنسان هو الجزء عندكم وهو ذو أبعاض وأجزاء، فحدثونا إذا حل الموت في بعض من أبعاضه فهل يجب أن يكون الإنسان ميتاً؟، فإن قالوا: الإنسان بكماله ميت، لزمهم أن الحياة إذا حلت في بعض من أبعاضه كان الكمال حيا، وأن يكون الإنسان حيا ميتاً إذا حل في بعضه حياة وفي بعضه موت. وكذلك يلزمهم إن زعموا أن الموضع الذي حله الموت ليس بميت أن يزعموا أن الحركة تحل موضعاً فلا يكون متحركاً، وكذلك إن زعموا أن الموت إذا حل بعضه كان بعضه ميتاً أن يقولوا: إن الحياة إذا حلت بعضه كان بعضه حيا؛ لأن الحياة ضد الموت وهما يتعاقبان تعاقباً واحداً على الجزء أو الجملة تعاقب سائر الأعراض المتعاقبة المتضادة. وقال: وإن زعموا أن الموت إذا حل موضعاً كان ميتا، وأن الحياة تحل موضعاً فلا يكون بها حيا، لزمهم أن العجز إذا حل موضعاً كان عاجزاً، وأن القدرة تحل موضعاً فلا يكون قادراً.
وإذا أثبتوا موضع الموت ميتاً لزمهم أن يثبتوا موضع العجز عاجزاً، وموضع القدرة قادراً، وموضع الحياة حيا. قال: ولا بد لهم من الإجابة إلى ذلك، فإذا أجابوا إليه قيل لهم: ما أنكرتم أنه جائز أن يفعل الله تعالى في بعض الإنسان قدرة على الإيمان وفي بعضه قدرة على الكفر، وأن يكون بعضه فاعلاً للإيمان، وبعضه فاعلاً للكفر، ويكون بعضه مستحقا للثواب وبعضه مستحقا للعقاب؟ قال: وإن زعموا أن الحياة إذا حلت في بعض الإنسان فليس بعضه حيا، وأن الموت إذا حل في بعضه كان بعضه ميتاً، أن الميت كان مينا الحلول الموت فيه، ولم يكن الحي حيا بحلول الحياة فيه؛ لأن البارى تعالى حي وليس بمحل للحياة، قيل: فما أنكرتم أن يكون الحي حيا لوجود الحياة به وأن الباري تعالى حي بحياة موجودة به وكذلك المحدث؟ وما أنكرتم أن يكون بعض الإنسان حيا بالحياة القائمة به ؟ فإن لم يجب ذلك لأن الحي لم يكن حيا لقيام الحياة به، جاز أن تقوم الحياة ببعضه ولا يكون الإنسان بها حيا؛ لأن الحي لم يكن حيا لوجود الحياة ببعضه.
فإن قالوا:
الحي القادر يجوز أن يفعل، فلو كانت أبعاضه حية قادرة جاز أن يفعل بعضه الإيمان وبعضه الكفر، فيكون كافراً مؤمناً في وقت قيل: ولو كان في أبعاضه قدرة وحياة الجاز أن يفعل بعضه الإيمان وبعضه الكفر، وإذا كانت القدرة قائمة بالجزء من الإنسان وليس بجائز أن يكون قادراً، فما أنكرتم أن يكون له قدرة على الفعل ولم يكن جائزاً أن يفعل ؟ وإن كانت القدرة لمن لا يجوز منه الفعل، فما أنكرتم أن يكون الجسم قادراً وإن لم يكن جائزاً منه الفعل ؟
قال:
فأما ما سألوهم عنه من أن الأمر لو كان كذلك لم يجز إذا فعل اللسان القذف أن يجلد الظهر على ما فعله اللسان الذي هو غيره من القذف، فهو عائد عليهم، وذلك بأن يقال لهم: إذا كان الكمال بالأمس هو الذي فعل القذف والزنا، ولم تكن التسعة الأبعاض قبل قطع العضو العاشر منها فاعلاً للزنا، فكيف يعاقب اليوم على الزنا من لم يكن له فاعلاً قط ؟ وقيل: أليس بعض الجسد فعل الزنا، فكيف يجب على الباقي من الأبعاض التوبة من الزنا؟ وهل تجب التوبة من الزنا على من لم يفعل الزنا قط ؟ ونحو ذلك من المسائل التي دارت بين المعتزلة وأهل الإثبات في هذا الباب، وكان يحكم للقائلين بأن الإنسان جزء واحد لا ينقسم على من قال من المعتزلة: إنه الجملة، وإنها هي الحية القادرة الفاعلة.
وكان ينكر قول الفلاسفة في حدهم الإنسان بأنه حي ناطق مائت، ويقول:
في بيان مذهبه في معنى الإنسان وحده
إن ذلك حد مرکب مما لا يصح اجتماعه من الحياة والموت، أو تكون العبارة فيه مستعملة على المجاز، وإن الحد ال لا يجوز أن يكون مركبا م من وصفين يجوز و وجود أحدهما مع مع : عدم الحكم، وإن الملائكة والجن عندنا أحياء ناطقون يموتون إذا أذن الله تعالى بموتهم وليسوا ناساً.
فكذلك الطفل حي غير ناطق يموت وهو إنسان، وكذلك الأخرس، وليس إخراج الأخرس ما في ضميره بالإشارة نطقاً على أصولهم؛ لأن ذلك يوجب أن يكون القردة أيضا ناطقة؛ لأنها تعرف الإشارة وتظهر ما في نفوسها بالإشارة للإنسان. قال: ولا يخلو أن يكونوا أشاروا في ذلك إلى ما يمكن أن يكون أو إلى الوجود، فإن أشاروا فيه إلى ما يمكن من حدوث النطق والحياة لزمهم أن يكون كل جسم إنساناً؛ لأن كل جسم في العالم يمكن حدوث الحياة والموت والنطق فيه، وإن ذهبوا إلى حدوث ذلك فيه ووجوبه له، لزمهم أن لا يكون في العالم إنسان لاستحالة أن يجتمع في جسم واحد الحياة والنطق والموت، حتى يكون حيا ناطقاً ميتاً في حالة واحدة. وإن قالوا: معناه من حدثت فيه حياة ونطق مع إمكان حدوث الموت له، لزمهم أن لا يكون الطفل إنساناً إذ لم يجتمع له النطق والحياة، مع إمكان الموت، ولزمهم أن لا يكون الميت إنساناً، ولا المغمى عليه إنساناً، ولا النائم؛ لأنه ليس لهم الحياة والنطق وإمكان الموت مع هذه المعاني.
Comments