فصل أخر
لم أنه كان يقول: إن الإثبات هو الوجود، والنفي هو الإعدام، وإن قول القائل: أثبت الله العالم، فمعناه: أوجده، وقوله: نفى الله كذا وكذا، فمعناه: أعدمه. ثم يستعمل في الخبر عن العدم وفي الخبر عن الوجود، فيقال لمن قال: إن زيداً متحرك إذا كان صادقاً، إنه مثبت لحركته، وقوله: إنه متحرك إثبات لحركته، وإن قوله ليس زيد متحركا، إذا كان صادق نفي لحركته وخبر عن عدم حركته. وإن ذلك تسمية للجسم وتثبيت للحركة وخبر عنها، وليس بإثبات لعين الجسم؛ لأن بغية القائل في قوله: هل تحرك زيد؟ وهل خرج من المصر؟ ليس هي لأن يتعرف عين زيد وأنه موجود الذات في العالم، وإنما بغية السائل خروج زيد وتحركه، وكذلك الجواب إنما وقع عن تحرك زيد وخروجه، وإن كانت التسمية تسمية للجسم ) . وكان يحيل قول من يقول: إن قول القائل: زيد متحرك، إثبات للجسم متحركاً، بل هو إثبات لحركته فقط، وتسمية لعينه بذلك.
وكان يقول: لو كان ذلك إثباتاً له وجه من الوجوه وجب في النفي مثله إذا قلنا: ليس زيد متحركا، وأن يكون ذلك نفياً له ولحركته. قال: ويستحيل أن يكون الثابت الذات الذي قد وجب وجوده، وصح كونه منفيا على وجه من الوجوه؛ لأن النفي هو كل قول وعقد صح عنده عدم الشيء، وأنه ليس بكائن إذا كان نفياً صحيحاً.
وكان يقول إذا قيل له: إن النفي عندك لا يقع على موجود، وإن قول القائل: زيد متحرك، إثبات (۲ ) لحركته، فهل يجوز وجود إثبات لا يثبت به شيء؟ أجاب بأنه لا يكون إثبات إلا لمثبت، وأن المثبت يقول القائل : زيد متحرك هو حركة زيد، فإذا قيل له: أفتقولون إنه مثبت متحرك؟ أبى ذلك وقال: لست أقول ذلك، بل أقول: إن المثبت بهذا القول هو الحركة، والمسمى بقولنا: متحرك هو الجوهر الذي وجدت به الحركة، فإذا قيل له: فإنه يجب على قولك هذا أن تكون الحركة متحركة؟ قال: لا يجب ذلك؛ لأن الإثبات إثبات للحركة، كما أن الأمر لزيد بأن يكون متحركا أمر بالحركة، وقدرته على أن يكون متحركاً قدرة على حركته، لا على نفسه، وكذلك مدحنا إياه على أن تحرك ولومنا على أن تحرك، مدح ولوم على الحركة وللحركة، ولا يجب لذلك أن تكون الحركة متحركة.
وكان يقول إذا قيل له: إذا قلت إن النفي لا يقع على الموجود، فكيف يصح قولك: ليس الجسم قديماً وليس البارئ تعالى محدثاً وليس البياض سواداً، وكل ذلك نفي وقع على الموجود ؟ أجاب بأنا لسنا نقول: إن ليس في هذه المواضع المراد بها النفي على الحقيقة بل ذلك ههنا مستعار والمراد في ذلك الإثبات؛ لأن أعيان هذه الأشياء موجودات، ولا يجوز أن يكون المنفي ثابتاً موجوداً، كما أنه لا يجوز أن يكون الشيء موجوداً معدوماً كائناً غير كائن في وقت واحد، وقولنا: ليس الجسم قديماً، فلم ترد به النفي، وإنما أريد به أن الجسم موجود إلى غاية لم يكن قبلها كان موجوداً، وقولنا: ليس البارئ تعالى محدثاً، معناه أنه لم يزل كائناً موجوداً لا إلى أول، فلذلك لم يكن نفياً، وكذلك قولنا: ليس البياض سواداً، فالمراد به أنه مخالف للسواد، وكذلك قولنا : ليس زيد عمراً، ع فالمراد به أنهما متغايران، وكل ذلك قد رجع إلى الإثبات، قال: ولسنا نأبى استعمال هذه العبارة في غير النفي على التوسع.
قال: ومن عبارات النفي قولهم : لا ، وليس، وما. فأما ليس فتختص بنفي ما في الحال إذا قال القائل: ليس يذهب زيد، فالمراد به نفي ذهابه في الحال، وأما قولهم: لا، فهو نفي يعم الأزمان الماضي والمستقبل والحال، وكذلك قولهم: ما إذا كان المراد به النفي، ولم يكن في معنى الذي.
قال: فإن قال قائل: فإن قلتم إنه يجوز أن يعلم الشيء ويجهل من وجهين، فلم لا يجوز أن ينفى ويثبت من وجهين؟ قال: لا يجب ما سألت؛ لأن إثبات المثبت للشيء قد يكوان خبراً عن وجوده، أو عقداً على وجوده، وقد يكون إثبات المثبت للشيء أن يكون الشيء به ثابتاً موجوداً، كالفعل الذي يكون موجوداً بفاعله، وحكم النفي أن يكون خبراً عن عدم الشيء وانتفائه، أو عقداً على عدمه وانتفائه، أو يكون معدوماً شيئاً بأن يفعل له نفياً إذا كان مما يجوز أن يبقى، أو بأن لا يفعل له بقاء في حال كان يجوز أن يبقى فيها، ولا يصح أن يكون الشيء موجوداً معدوماً معا في حالة واحدة، كائناً غير كائن في وقت واحد، فلم يجز أن يكون مثبتاً منفيا في وقت واحد. ولما جاز أن يعلم الشيء من يعتقده على خلاف ما هو به كالدهري الذي يعلم الجسم موجوداً، ويعتقده قديماً، وكان اعتقاده الشيء على خلاف ما هو به جهلاً به. جاز أن يعلم الشيء ويجهل من وجهين، ولا يجوز أن يكون الشيء مثبتا منفيا من وجهين؛ لأن النفي لا يقع على موجود في الحقيقة، كما لا يقع الإثبات على معدوم في الحقيقة، ولا يصح أن يكون المعدوم ثابتاً كائناً.
وكان أجرى طرقه في إثبات أعراض الجسم وصفات البارئ تعالى من جهة النفي والإثبات، وسبيل استدلاله بذلك أنه كان يقول: إثبات الجسم متحركاً لا بد أن يكون له مثبت، ولا يخلو أن يكون ذلك المثبت عين الجسم أو حركته. فبطل أن يكون عين الجسم هو المثبت بذلك؛ لأن غرض المثبت لذلك ليس هو الخير عن وجود عينه وكونها، بل غرضه في الإخبار عن حركته. ولو كان المثبت بذلك عين المتحرك لكان المنتفي بهذا القول عين المتحرك أيضاً إذا قال القائل : ليس الجسم متحركاً، ولو كان كذلك كان معدوماً متحركاً موجوداً كائناً وهذا محال. فعلم أن المثبت بهذا الإثبات هو الحركة لا عين المتحرك. وبمثل هذه الطريقة يستدل في إثبات العلم للعالم شاهداً وغائباً، ويحيل قول من يقول: إن الإثبات للعالم علما (1 ) ليس بإثبات للذات مطلقاً، بل هو إثبات الذات على صفة أو حال.
ويقسم هذا الكلام إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرناها بأنها لا تخلو من أن يكون إثباتاً للذات فقط أو للصفة أو لهما.
وقد بينا فساد قول من يقول: إن ذلك إثبات للذات والصفة؛ لأن ذلك يوجب أن يكون المثبت بهذا القول شيئين وموجودين وثابتين، وهذا خلاف قولهم، وإن كان المثبت بهذا القول هو الحركة والعلم، وهو الصفة، فذلك ما قلناه وبالله ا
وكان يقول: لو كان ذلك إثباتاً له وجه من الوجوه وجب في النفي مثله إذا قلنا: ليس زيد متحركا، وأن يكون ذلك نفياً له ولحركته. قال: ويستحيل أن يكون الثابت الذات الذي قد وجب وجوده، وصح كونه منفيا على وجه من الوجوه؛ لأن النفي هو كل قول وعقد صح عنده عدم الشيء، وأنه ليس بكائن إذا كان نفياً صحيحاً.
وكان يقول إذا قيل له: إن النفي عندك لا يقع على موجود، وإن قول القائل: زيد متحرك، إثبات (۲ ) لحركته، فهل يجوز وجود إثبات لا يثبت به شيء؟ أجاب بأنه لا يكون إثبات إلا لمثبت، وأن المثبت يقول القائل : زيد متحرك هو حركة زيد، فإذا قيل له: أفتقولون إنه مثبت متحرك؟ أبى ذلك وقال: لست أقول ذلك، بل أقول: إن المثبت بهذا القول هو الحركة، والمسمى بقولنا: متحرك هو الجوهر الذي وجدت به الحركة، فإذا قيل له: فإنه يجب على قولك هذا أن تكون الحركة متحركة؟ قال: لا يجب ذلك؛ لأن الإثبات إثبات للحركة، كما أن الأمر لزيد بأن يكون متحركا أمر بالحركة، وقدرته على أن يكون متحركاً قدرة على حركته، لا على نفسه، وكذلك مدحنا إياه على أن تحرك ولومنا على أن تحرك، مدح ولوم على الحركة وللحركة، ولا يجب لذلك أن تكون الحركة متحركة.
وكان يقول إذا قيل له: إذا قلت إن النفي لا يقع على الموجود، فكيف يصح قولك: ليس الجسم قديماً وليس البارئ تعالى محدثاً وليس البياض سواداً، وكل ذلك نفي وقع على الموجود ؟ أجاب بأنا لسنا نقول: إن ليس في هذه المواضع المراد بها النفي على الحقيقة بل ذلك ههنا مستعار والمراد في ذلك الإثبات؛ لأن أعيان هذه الأشياء موجودات، ولا يجوز أن يكون المنفي ثابتاً موجوداً، كما أنه لا يجوز أن يكون الشيء موجوداً معدوماً كائناً غير كائن في وقت واحد، وقولنا: ليس الجسم قديماً، فلم ترد به النفي، وإنما أريد به أن الجسم موجود إلى غاية لم يكن قبلها كان موجوداً، وقولنا: ليس البارئ تعالى محدثاً، معناه أنه لم يزل كائناً موجوداً لا إلى أول، فلذلك لم يكن نفياً، وكذلك قولنا: ليس البياض سواداً، فالمراد به أنه مخالف للسواد، وكذلك قولنا : ليس زيد عمراً، ع فالمراد به أنهما متغايران، وكل ذلك قد رجع إلى الإثبات، قال: ولسنا نأبى استعمال هذه العبارة في غير النفي على التوسع.
قال: ومن عبارات النفي قولهم : لا ، وليس، وما. فأما ليس فتختص بنفي ما في الحال إذا قال القائل: ليس يذهب زيد، فالمراد به نفي ذهابه في الحال، وأما قولهم: لا، فهو نفي يعم الأزمان الماضي والمستقبل والحال، وكذلك قولهم: ما إذا كان المراد به النفي، ولم يكن في معنى الذي.
قال: فإن قال قائل: فإن قلتم إنه يجوز أن يعلم الشيء ويجهل من وجهين، فلم لا يجوز أن ينفى ويثبت من وجهين؟ قال: لا يجب ما سألت؛ لأن إثبات المثبت للشيء قد يكوان خبراً عن وجوده، أو عقداً على وجوده، وقد يكون إثبات المثبت للشيء أن يكون الشيء به ثابتاً موجوداً، كالفعل الذي يكون موجوداً بفاعله، وحكم النفي أن يكون خبراً عن عدم الشيء وانتفائه، أو عقداً على عدمه وانتفائه، أو يكون معدوماً شيئاً بأن يفعل له نفياً إذا كان مما يجوز أن يبقى، أو بأن لا يفعل له بقاء في حال كان يجوز أن يبقى فيها، ولا يصح أن يكون الشيء موجوداً معدوماً معا في حالة واحدة، كائناً غير كائن في وقت واحد، فلم يجز أن يكون مثبتاً منفيا في وقت واحد. ولما جاز أن يعلم الشيء من يعتقده على خلاف ما هو به كالدهري الذي يعلم الجسم موجوداً، ويعتقده قديماً، وكان اعتقاده الشيء على خلاف ما هو به جهلاً به. جاز أن يعلم الشيء ويجهل من وجهين، ولا يجوز أن يكون الشيء مثبتا منفيا من وجهين؛ لأن النفي لا يقع على موجود في الحقيقة، كما لا يقع الإثبات على معدوم في الحقيقة، ولا يصح أن يكون المعدوم ثابتاً كائناً.
وكان أجرى طرقه في إثبات أعراض الجسم وصفات البارئ تعالى من جهة النفي والإثبات، وسبيل استدلاله بذلك أنه كان يقول: إثبات الجسم متحركاً لا بد أن يكون له مثبت، ولا يخلو أن يكون ذلك المثبت عين الجسم أو حركته. فبطل أن يكون عين الجسم هو المثبت بذلك؛ لأن غرض المثبت لذلك ليس هو الخير عن وجود عينه وكونها، بل غرضه في الإخبار عن حركته. ولو كان المثبت بذلك عين المتحرك لكان المنتفي بهذا القول عين المتحرك أيضاً إذا قال القائل : ليس الجسم متحركاً، ولو كان كذلك كان معدوماً متحركاً موجوداً كائناً وهذا محال. فعلم أن المثبت بهذا الإثبات هو الحركة لا عين المتحرك. وبمثل هذه الطريقة يستدل في إثبات العلم للعالم شاهداً وغائباً، ويحيل قول من يقول: إن الإثبات للعالم علما (1 ) ليس بإثبات للذات مطلقاً، بل هو إثبات الذات على صفة أو حال.
ويقسم هذا الكلام إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرناها بأنها لا تخلو من أن يكون إثباتاً للذات فقط أو للصفة أو لهما.
وقد بينا فساد قول من يقول: إن ذلك إثبات للذات والصفة؛ لأن ذلك يوجب أن يكون المثبت بهذا القول شيئين وموجودين وثابتين، وهذا خلاف قولهم، وإن كان المثبت بهذا القول هو الحركة والعلم، وهو الصفة، فذلك ما قلناه وبالله ا
لتوفيق.
Comments