الاستخلاف للخطبة والصلاة في الجمعة تأليف العلامة ابن كمال باشا

 



الاستخلاف للخطبة والصلاة في الجمعة تأليف العلامة ابن كمال باشا

بسم الله الرحمن الرحیم


الحمدُ لوليه، والصَّلاةُ عَلَى نَبِيِّهِ


قال في «الهداية»: وليس للقَاضِي أنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى القَضَاءِ، إِلَّا أَنْ يُفَوِّضَ إِلَيْهِ ذلك، بخلاف المَأْمُور بإقامة الجمعة حيثُ يَسْتَخلفُ (٢).


أقول : يعني يجوز له أن يُقيم الغَيْرَ مُقَامه لإقامة الجمعة، وهذا ظاهر في جواز الاستخلاف للخطبة بلا تفويض من السلطان؛ لأن إقامة الجمعة لا تكون بدونها، فجواز الاستخلاف لإقامة الجمعة متضمن الجواز الاستخلاف للخطبة.


وعبارة «الخلاصة) - حَيثُ قَالَ : لَهُ أنْ يَستخلف، وإن لم يكن في منشور الإمام ) أن يستخلف (1) - صريحةٌ فيما ذكرناه؛ لأن ما يُكتب (٥) فِي مَنشُورِهِ إِنَّمَا هُوَ الإِدْنُ بأن يستخلف خطيباً آخر مقامه.

ثُمَّ إِنَّ التَّعليل المذكور في الهداية» بقوله: «لأَنَّهُ عَلَى شَرفِ الفَواتِ لَتَوفَّتِهِ، فَكَانَ الإذن له إذناً بالاستخلافِ دلالة (۱) يُفْصِحُ عَمَّا بَيِّنَاهُ؛ لأَنَّ كَونَهُ عَلَى شَرِفِ القوات، كما يدلُّ على كون الأمر بإقامة الجمعة إذناً بالاستخلاف في الصَّلاةِ كذلك يَدلُّ عَلَى كُونِ الأمرِ المَذْكُورِ إذناً بالاستخلاف في الخُطبة.


وهذا معَ وُضُوحِهِ قَدْ خَفِيَ عَلَى مَن قال : إِنَّ الاستخلاف للخطبة لا يجوز أصلاً، ولا للصلاة ابتداء، بل يجوز (۳) بعد ما أحدث الإِمَامُ، وَهَذَا مَعنَى ما قال في «الهداية»، بخلاف المأمور بإقامة الجمعة؛ حيثُ يستخلِفُ ... إلخ )، فركب غلطاً، وارتكب شَطَطًاً، أمَّا أَنَّهُ رَكِبَ (1) الغلط ؛ فلتصريحه بعدم جواز الاستخلاف للخطبة أصلاً، وأما أنه ارتكب شططاً ) ؛ فلحمله (۸) كلام صاحب «الهداية» على ما لا يتحمله.


ثُمَّ قَالَ: ووجههُ أنَّ الخُطبة والإمامة بعدها من أفعال السلطان كالقضاء، فلم يجز لغيرهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِذا لَمْ يُوجَد، لم يجز .

ولا يخفى ما فيه من الخلل ؛ لأنَّهُ إنْ أراد بالإِذْنِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ يَجْزُ لِغَيْرِهِ إِلَّا بإذنه الإذن الصَّريح ، فلا يكونُ صَحِيحاً؛ لما عرفت من كفاية الإذن دلالةً، وما ذكره من كونها من أفعالِ السُّلطان لا يقتضي ذلك، فلا يتم التفريع أيضاً.


وإن أراد به ما يعم الإذنَ دِلالةً كما هو مُقتضَى التَّفريعِ المَذْكُورِ؛ فَإِنَّ مَا قَدَّمهُ إنَّما يقتضي ذلك، فلا يتم التقريب؛ لما عرفت من تحقق الإذن دلالة للاستخلاف (1) في الخطبة.


ثُمَّ قال: وتحقيقه ما قال ..... إلخ، وطوَّلَ ذَيْلَ المَقالِ، وَلَمْ يَأْتِ بما يُعيِّنُ ما ادعاه، أو يُعينُ عَلى ما ادعاه، وبعد هذا كلهِ تَصلَّفَ ، وقال: «و (۳) هَذا ممَّا يَجِبُ حِفظهُ، والنَّاسُ عنهُ غَافِلُونَ».


وإِنْ شِيْتَ تَحقِيقَ المَقامِ بتلخيص الكَلامِ عَلَى وَجْهِ يَتَضمَّنُ تَحْلِيصُهُ مِن الأوهام، فلترجع إلى ما أمليناهُ مِن «الفرائد والفوائدِ ، حَيثُ قَلنا: «وَمِن شَرائطها الإذن لإقامتها، أو ما يقوم مقامه، والإذن المُعتَبرُ ما يَكونُ مِن السلطان أو ما ينوب منابه، والقَاضِي مِن النَّوَّابِ في هذا الباب.


ثمَّ الإذن قد يكون عبارة، وقد يكون دلالة»، انتَهَى المَنقُولُ عَن الفَرائِدِ».


قوله: «الإذن لإقامتها»، هذا الشرط إذا لم يكن الإِمَامُ السُّلطان، فالشَّرط في الحقيقة أحد الأمور الثلاثةِ (۳) : إقامة السلطان بنفسه، أو الإذن منه، أو ما يقوم مقامه.


قوله: «أو ما يقوم مقامه»، وهو اجتماعُ النَّاسِ عَلَى رَجُلٍ يُصلِّي بِهِمْ عِندَ فَقَدِ السلطان، أو تَعدُّرِ الوصول إليه.


قال الإمام السرخسي في المَبسُوط»: لم يذكرُ أَنَّهُ لو مَـ أَنَّهُ لَو مَاتَ (1) مَنْ يُصلِّي الجُمعة بالنَّاسِ، فَاجتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ، فَصَلَّى بِهِمْ هَل يُجْزِئُهُمْ ذَلِكَ ؟


والصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجزئهمْ، فَقَد ذَكَرَ ابنُ رُستم عَن مُحَمَّدٍ رَحمهُ اللهُ: أَنَّهُ لَو مَاتَ عامل فريضة )، فاجتمعَ النَّاسُ عَلى رَجلٍ فصلى بهم الجمعة، أَجْزَاهُمْ؛ لأَنَّ عُثمانَ رَضِيَ الله عنه لما حُصِرَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَلَيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فصلى بهم الجمعة، ولأن الخليفة إِنَّما يأمر بذلك؛ نظراً منه لهُمْ، فإذا نَظَرُوا لأَنفُسِهِمْ وَاتَّفَقُوا عَلَيهِ، كَانَ ذلكَ بِمَنزِلَةِ أَمرِ الخَليفَةِ إِيَّاهُ .

قوله: «أو ما ينوبُ مَنابَهُ؛ كَصَاحِبِ الشَّرَطِ (۱).

قال الإمامُ المُطرِّزِيُّ في «المُغرِبِ»: صاحِبُ الشَّرَطِ في بابِ الجُمعةِ يُرادُ بِهِ أمير البلدة؛ كأمِيرِ بُخارى.


وقيل : هذا عَلى عَادَاتِهِمْ؛ لأنَّ أُمورَ الدِّينِ والدُّنيا كَانَتْ حِينَئِذٍ إلى صَاحِبِ الشرط، فأما الآن فلا (۲).


قوله: «والقَاضِي من النواب في هَذا البَابِ»؛ يَعْنِي : تصح إقامة الجمعة والاستخلاف فيها بإذن القَاضِي ؛ لأنَّهُ مِن جُملة النوَّابِ الَّذِينَ اعتُبرَ إِذنُهُمْ فِي باب الجمعة.


ووَجهُ ذَلكَ - عَلى ما ذكره الإمام السرخسي في المَبسُوط» - : أَنَّ إقامة الجمعة (۳) من أمور العامة، وقد فرض إلى القاضي ما هُو مِن أُمورِ العَامَّةِ، فَنُزِّلَ مَنزِلَةَ الإِمَامِ في الإقامة والاستخلاف.


قوله: «وقد يكون دلالة ؛ كالإذنِ الثَّابت للإِمَامِ بِأَنْ يَسْتَخلَفَ غَيْرَهُ في اقامة الجمعة حدوث عُذر (٥) يَمنعُهُ عنها فـ ا في ضمن تعيينه الإمامة، قالوا: إِنَّ الجمعة مُؤقَّتَةٌ تَفُوتُ بتَأْخِيرِها عِندَ العُذرِ إذا لم يستخلف، فالأمر بإقامتها مع علم الوالي أنه قد يعرض ما يمنعه من الإقامة، يكون إذنا بالاستخلاف دلالة، انتهى ما نقلناه من الفوائد».


(وإذ قد ) عرفتَ أنَّ استخلاف الإِمَامِ إِنَّما يَجوزُ إِذا كَانَ مَعَذُوراً بِعُدْرٍ يَشغَلَهُ عَن إقامة الجمعة في وقتها، وأما إذا لم يكن معذوراً أصلاً، أو كانَ مَعَذُوراً لكِنْ يُمكِنُ إزالة عذره وإقامة الجمعة بعده (۲) قَبلَ خُروج الوقت، فلا يجوزُ الاستخلاف؛ بناءً على أنَّ الأصل عدم الاستخلاف، وجوازه بالإذن عبارة أو دلالةً وهو مفقود في الصُّورَتِينِ المَذْكُورَتين (۳).


فَقَدْ وَقفَتَ عَلَى فَسَادِ ما فعله الأئِمَّةُ فِي زَمانِنا ؛ حَيثُ يَحْضُرُونَ الجَامِع بلا عُذر، ويستخلفون الغير في إقامة الجمعة (1) .

بقي هَاهُنا دَقيقَةٌ أُخرى، وهي: أنَّ إقامة الجمعة عبارة عن أمرين : الخطبة والصَّلاةِ، والمَوقُوفُ عَلى الإذنِ هُو الأَوَّلُ دُونَ الثَّاني؛ إذ لا حاجة فيهِ إلى الإذن.


ويدلُّ عَليهِ المَسألة القائلة: لو أنَّ الإِمَامَ إِذَا سَبَقَهُ الحَدثُ بعدَ فَرَاغِهِ عَنِ الخطبة، فأمر رجُلاً بإقامة الجمعة؛ إنْ كانَ المَأمورُ ممَّنْ قَدْ شَهِدَ الخُطبة جاز.


ووجه الدلالة ظاهر؛ لأنَّ الإذن لم يُوجد في الصورة (1) المذكورة لا صريحاً، وذلك واضح، ولا دلالة؛ لعدم خَوفِ الفَواتِ؛ فإِنَّ الإِمَامَ قَادِرٌ عَلَى إِزالَةِ الحَدَثِ وإقامة الصَّلاةِ قَبْلَ خُروج الوقت.


و من هاهنا اتضح أنَّ المُراد (۳) من الاستخلاف لإقامة الجمعة الاستخلاف للخطبة، لا الاستخلاف للصَّلاةِ؛ كما توهمه القائل (۱) السَّابِقُ ذِكرُهُ (۲).


والحَمدُ للهِ عَلَى التَّمامِ، وَلرَسُولِهِ أَفضَلُ الصَّلَاةِ وَأَكمَلُ السَّلَامِ










Comments