بسم الله الرحمن الرحيم
[تفسير آية الفاتحة ]
اسم الشيء ما يعرف به، فأسماء الله تعالى هي الصور النوعية التي تدل بخصائصها وهوياتها على صفات الله وذاته، وبوجودها على وجهه، وبتعينها على وحدته، إذ هي ظواهره التي بها يعرف.
و اللہ اسم للذات الإلهية من حيث هي هي على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها بالصفات، ولا باعتبار لا اتصافها.
و الرحمن( هو المفيض للوجود والكمال على الكل بحسب ما تقتضي الحكمة وتحتمل القوابل على وجه البداية.
و الرحيم هو المفيض للكمال المعنوي المخصوص بالنوع الإنساني بحسب النهاية، ولهذا قيل يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الآخرة. فمعناه بالصورة الإنسانية الكاملة الجامعة الرحمة العامة والخاصة، التي هي مظهر الذات الإلهي والحق الأعظمي مع جميع الصفات ابدأ واقرأ، وهي الاسم الأعظم وإلى هذا المعنى أشار النبي بقوله ((أوتيت جوامع الكلم، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، إذ الكلمات حقائق الموجودات وأعيانها. كما سمي عيسى كلمة من الله، ومكارم الأخلاق كمالاتها وخواصها التي هي مصادر أفعالها جميعها محصورة في الكون الجامع الإنساني. وههنا لطيفة وهي أن الأنبياء عليهم السلام وضعوا حروف التهجي بإزاء مراتب الموجودات. وقد وجدت في كلام عيسى r وأمير المؤمنين علي وبعض الصحابة ما يشير إلى ذلك. ولهذا قيل ظهرت الموجودات من باء بسم الله إذ هي الحرف الذي يلي الألف الموضوعة بإزاء ذات الله. فهي إشارة إلى العقل الأول الذي هو أول ما خلق الله المخاطب بقوله تعالى (ما خلقت خلقاً أحب إلي ولا أكرم علي منك، بك أعطي، وبك آخذ، وبك أثيب، وبك أعاقب...) الحديث. والحروف الملفوظة لهذه الكلمة ثمانية عشر، والمكتوبة تسعة عشر. وإذا انفصلت الكلمات انفصلت الحروف إلى اثنين وعشرين، فالثمانية عشر إشارة إلى العوالم المعبر عنها بثمانية عشر ألف عالم، إذ الألف هو العدد التام المشتمل على باقي مراتب الأعداد فهو أم المراتب الذي لا عدد فوقه، فعبر بها عن أمهات العوالم التي هي عالم الجبروت، وعالم الملكوت، والعرش، والكرسي، والسموات السبع، والعناصر الأربعة، والمواليد الثلاثة التي ينفصل كل واحد منها إلى جزئياته. والتسعة عشر إشارة إليها مع العالم الإنساني، فإنه وإن كان داخلاً في عالم الحيوان إلا أنه باعتبار شرفه وجامعيته للكل وحصره للوجود عالم آخر له شأن وجنس برأسه له برهان، كجبريل من بين الملائكة في قوله تعالى وملائكته ورسله وجبريل [البقرة، الآية 98]. والألفات الثلاثة المحتجبة التي هي تتمة الاثنين والعشرين عند الانفصال إشارة إلى العالم الإلهي الحق، باعتبار الذات، والصفات، والأفعال. فهي ثلاثة عوالم عند التفصيل، وعالم واحد عند التحقيق، والثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور تلك العوالم على المظهر الأعظمي الإنساني، والاحتجاب العالم الإلهي. حين سئل رسول الله عن ألف الباء من أين ذهبت ؟ قال ((سرقها الشيطان)). وأمر بتطويل باء بسم الله تعويضاً عن ألفها إشارة إلى احتجاب ألوهية الإلهية في صورة الرحمة الانتشارية وظهورها في الصورة الإنسانية بحيث لا يعرفها إلا أهلها، ولهذا نكرت في الوضع. وقد ورد في الحديث ((إن الله تعالى خلق آدم على صورته))، فالذات محجوبة بالصفات، والصفات بالأفعال، والأفعال بالأكوان والآثار، فمن تجلت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل، ومن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي وسلم. ومن تجلت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الوحدة فصار موحداً مطلقاً فاعلاً ما فعل وقارئاً ما قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فتوحيد الأفعال مقدم على توحيد الصفات وهو على توحيد الذات وإلى الثلاثة أشار في سجوده بقوله ((أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك)).
[آية 2 - 5]
الحمد لله رب العالمين إلى آخر السورة، الحمد بالفعل ولسان الحال هو ظهور الكمالات وحصول الغايات من الأشياء إذ هي أثنية فاتحة ومدح رائعة لموليها بما يستحقه. فالموجودات كلها بخصوصياتها وخواصها، وتوجهها إلى غاياتها، وإخراج كمالاتها من حيز القوة إلى الفعل، مسبحة، حامدة، كما قال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده [الإسراء، الآية 44]، فتسبيحها إياه تنزيهه عن الشريك وصفات النقص والعجز باستنادها إليه وحده، ودلالتها على وحدانيته وقدرته، وتحميدها إظهار كمالاتها المترتبة، ومظهريتها لتلك الصفات الجلالية والجمالية. وخص بذاته بحسب مبدئيته للكل، وحافظيته ومدبريته له التي هي معنى الربوبية للعالمين، أي لكل ما هو علم لله يعلم به كالخاتم لما يختم به، والقالب لما يقلب فيه، وجمع جمع السلامة لاشتماله على معنى العلم أو للتغليب، وبإزاء إفاضة الخير العام والخاص، أي النعمة الظاهرة كالصحة والرزق. والباطنة كالمعرفة والعلم. وباعتبار منتهائيته التي هي معنى مالكية الأشياء في يوم الدين إذ لا يجزي في الحقيقة إلا المعبود الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء بإثابة النعمة الباقية عن الفانية عند التجرد عنها بالزهد وتجليات الأفعال عند انسلاخ العبد عن أفعاله، وتعويض صفاته عند المحو عن صفاته وإبقائه بذاته، وهبته له الوجود الحقاني عند فنائه فله تعالى مطلق الحمد وماهيته أزلاً وأبدا على حسب استحقاقه إياه بذاته باعتبار البداية والنهاية وما بينهما في مقام الجمع على ألسنة التفاصيل، فهو الحامد والمحمود تفصيلاً وجمعاً، والعابد والمعبود مبدأ ومنتهى. ولما تجلى في كلامه لعباده بصفاته شاهدوه بعظمته وبهائه، وكمال قدرته وجلاله، فخاطبوه قولاً وفعلاً بتخصيص العبادة به، وطلب المعونة منه، إذ ما رأوا معبوداً غيره، ولا حول ولا قوة لأحد إلا به. فلو حضروا لكانت حركاتهم وسكناتهم كلها عبادة له وبه، فكانوا على صلاتهم دائمين داعين بلسان المحبة لمشاهدتهم جماله من كل وجه على كل وجه
. [آية 6 - 7]
اهدنا الصراط المستقيم أي ثبتنا على الهداية ومكنا بالاستقامة في طريق الوحدة التي هي طريق المنعم عليهم بالنعمة الخاصة الرحيمية التي هي المعرفة والمحبة والهداية الحقانية الذاتية من النبيين والشهداء والصديقين والأولياء، الذين شاهدوه أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي عن وجود الظل الفاني. غير المغضوب عليهم الذين وقفوا مع الظواهر، واحتجبوا بالنعمة الرحمانية، والنعيم الجسماني، والذوق الحسي عن الحقائق الروحانية، والنعيم القلبي، والذوق العقلي كاليهود إذ كانت دعوتهم إلى الظواهر والجنان والحور والقصور، فغضب
عليهم لأن الغضب يستلزم الطرد والبعد والوقوف مع الظواهر التي هي الحجب الظلمانية غاية البعد. ولا الضالين الذين وقفوا مع البواطن التي هي الحجب النورانية واحتجبوا بالنعمة الرحيمية عن الرحمانية، وغفلوا عن ظاهرية الحق، وضلوا عن سواء السبيل، فحرموا شهود جمال المحبوب في الكل كالنصارى إذ كانت دعوتهم إلى البواطن وأنوار عالم القدوس ودعوة المحمديين الموحدين إلى الكل، والجمع بين محبة جمال الذات، وحسن الصفات، كما ورد في القرآن الكريم وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة [آل عمران، الآية 133]، اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به [الحديد، الآية 28]، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [النساء الآية 36]. فأجابوا الدعوات الثلاث. كما جاء في حقهم ويرجون رحمته ويخافون عذابه [الإسراء، الآية 57]، يقولون ربنا أتمم لنا نورنا [التحريم، الآية 8]، إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقموا [فصلت، الآية 30]. فأثيبوا بالجميع على ما أخبر الله تعالى جزاؤهم عند ربهم جنات عدن [البينة، الآية 8]، لهم أجرهم ونورهم [الحديد، الآية 19]، فأينما تولوا فثم وجه الله [البقرة، الآية 115]، للذين أحسنوا الحسنى وزيادة[يونس، الآية 26].
Comments