في إبانة خطئه في ذلك مما ذكر في مقدمة كتابه هذا
اعلم أنه قد جمع في هذا الفصل أنواعا من الخطأ، منها سوء العبارة، ومنها فساد الحكاية عن المذهب، ومنها الخطأ في الترتيب، ومنها ترك ما يجب أن يذكر وإمساكه عن إيضاح ما يجب أن يوضح فيه.
من ذلك قوله:
إن أصل علوم الأشياء المشاهدات، وهذا خطأ لأن المشاهد هو المعلوم، وليس أصل العلم المعلوم ولا أصل العلم غير المعلوم أيضا، وهو الذي يجري على عبارات المتكلمين في قولهم شاهد و مشاهدة»، لا يخلو من أحد أمرين؛
إما أن يرجعوا إلى المع
لوم أو إلى العلوم في الحقيقة، فالشهادة هي العلم والشاهد العالم، والمشاهد المعلوم، ولو قال: أصل علوم الأشياء الشهادات، وأراد به العلوم، لكان ذلك أيضا كلاما مكررا لا فائدة فيه، كأنه قال: أصل علوم الأشياء العلوم، ولو أراد أن يورد العبارة الصحيحة في ذلك لكان يجب أن يقول: أصل علوم الاستدلال العلوم الضرورية، حتى يعرف غرضه وسنته وسنن مقصده، وكذلك قوله بعد ذلك وأن بها يعلم غيرها من العلوم، خطأ لأنه إن أراد علوم الاكتساب، فليس يعلم علوم الاكتساب يعلوم الاضطرار، وإن كانت أصولا لها، وإنما يعلم العلم المكتسب بعلم مكتسب، ويعلم الضروري بعلم ضروري.
وكذلك قوله: فمن دفع علم المشاهدات لم يمكنه معرفة شيء من الأشياء من طريق الاستدلال، ففي هذا من سوء العبارة ما بيناه على أن الدفع [ الذي هو الإنكار باللسان لا يمنع من إمكان معرفة معلوم من طريق الاستدلال، والدفع الذي هو إنكار بالقلب فمحال لأن ما يضطر إليه الإنسان من العلوم فلا سبيل له إلى دفعها ولا إلى الخروج عنها، وكذلك إذا كانت ضرورة لا يمكنه التخلص منه بجهده وإرادته، فعلى أي الأمرين كان فقد تبين فساد کلامه وبمثله تبين فساد قوله: كما أن من دفع وجود نفسه لم يمكنه أن يعرف وجود غيره، لأنا إن رجعنا بالدفع إلى إنكار اللسان، فذلك لا يمنع من إمكان معرفة وجود غيره، فأما دفع القلب فلا سبيل إليه بكل حال لأن ذلك ضروري كما بيناه، وليس له إلى دفع الضرورة عن نفسه سبيل.
ولو أراد العبارة الصحيحة عن ذلك كان يجب أن يقول: إن من أنكر باللسان العلوم الضرورية لم يمكن أن يثبت عليه من طريق الاستدلال حجة يعترف بها، إذ لا سبيل إلى الاعتراف بصحة الفرع مع إنكار الأصل، وإن طرق الاستدلال إنما تصح فائدتها وتثبت ثمرتها لمن يحقق الأصول التي هي العلوم الضرورية، وذلك يرجع إلى اعتراف القول، والإنكار من جهته لا إلى الجحد الذي هو جحد على الحقيقة بالقلب مع اعتقاد خلافه، لأن ذلك متعذر ولا سبيل لأحد إلى دفعه عن نفسه يفعل ضد اعتقاده.
وأما قوله: ومن أصله أن الأشياء تعرف حقيقة معرفتها من صحتها وفسادها من أربعة أشياء، فالخطأ ظاهر فيه من وجوء؛ أحدها أن المعرفة بحقيقة المعرفة بالأشياء ليست معرفة بالأشياء، وإنما أراد أن يخبر عن طريق المعرفة بالأشياء لا على طريق المعرفة بمعرفة الأشياء، ومع فساد عبارته والمعنى فاسد أيضا، إذ كل الأشياء لا تعرف حقيقتها في صحتها وفسادها من الوجوه التي ذكرها من الكتاب والسنة والإجماع ودلائل العقول، بل أكثرها يعرف بغير هذه الطريقة وإنما الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل يعرف به بعض الأشياء دون بعض، وجملة ذلك ما عدا ما يعلم بالحس وخبر التواتر، ألا ترى أنه لا يصح أن تعلم الأجسام الفانية بشيء من ذلك علم ضرورة، ولا ما يتوصل إلى معرفتها بالحواس، وإنما الكتاب والسنة والإجماع ودلائل العقول طرق في معرفة ما عدا ذلك.
فأما قوله: وما يعقل من الكتاب فعلى وجوه أحدها أن يعلم بالنص المفهوم كقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْة ) [الشورى: (۱۱)، وقوله بعد ذلك: ومنها ببيان الرسول ، فقد اخطأ في ذلك من وجوه
أحدها أنه ذكر بأن ذلك على وجوه، ولم يذكر إلا واحدا منها، وهو قوله: ما يعلم بالنص، وأخطأ فيه أيضا لأن نفي التشبيه لم يعقل بالخبر، بل المعرفة بنفي الشبه وإحالته سابقة للمعرفة بالكتاب والسنة، وقوله أيضا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى: ۱۱] بالنص المفهوم الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا ألا ترى أن اللبس قد يدخل على السامع لذلك حتى تكشف عنه بالنظر والاستدلال، لأن الظاهر نفي المماثلة عن مثله، وليس الغرض كذلك، والعجب أنه عد في الوجوه التي تعقل من الكتاب بيان الرسول، وما يعلم ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام فليس هو معلوم بالكتاب فقط، ثم ذكر بعده دلائل العقول وليس ذلك أيضا مما يعقل من الكتاب، بل يجب أن يكون ذلك ثابت قبل العلم بالكتاب وصحته، وكذلك القول في إجماع الأمة لأن ذلك مما يعلم صحته سمعا .
وقوله بعد ذلك كالآيات المحتملة المتشابهة كأي الصفات والوعيد والقدر، فقد أخطأ في ترتيبه أيضا وعطفه مثل هذا الكلام على ما قبله، لأن الآيات المتشابهة منها ما لا يعقل حكمها بالكتاب، ومنها ما لم تبينها سنة، ومنها ما لا طريق إلى الوقوف عليها، لأن أي الوعيد مما لا يمكن معرفة المراد منها الآن؛ هل هي نعم جميع العصاة أم بعضهم ؟ وإنما أخرج الكفار بإجماع، فأما الصفات فالقول فيها إنها على قسمين فما اقتضى العقل إثباتها وورود السمع مؤكدا لذلك، فلا اشتباه في معناها، وكذلك ما ورد في إثبات القدرة الله تعالى في سائر الأفعال خيرها وشرها.
وأما الصفات التي طريقها السمع كإثبات اليد والعين، فهي من الآي المتشابهة التي لا يمكن معرفة معانيها بالكتاب، وإنما يتوصل إلى معرفة الجملة من ذلك بالنظر والاستدلال. وهذا تفصيل هذه الجملة وقد نبهناك على خطأ هذا المصنف في هذا الكتاب، فليكفك ما نبهناك من ذلك على ما تركنا وسندلك على المحجة الواضحة في هذه الأبواب في تعريف المذهب وأصوله أولا فأولا، لأن ما جمعه هذا المصنف في ذلك أبوابا يجب أن يفصل ويرتب ليوقف على حقيقتها إن شاء الله تعالى.
Comments